فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وأنّهُ لمّا قام عبْدُ اللّهِ يدْعُوهُ كادُوا يكُونُون عليْهِ لِبدا (19)}
قرأ نافع وحده وأبو بكر عن عاصم بكسر الهمزة.
وقرأه بقية العشرة في رواياتهم المشهورة بالفتح.
ومآل القراءتين سواء في كون هذا خارجا عما صدر عن الجن وفي كونه مما أوحى الله به.
فكسْر الهمزة على عطف الجملة على جملة {أوحي إليّ} [الجن: 1]، والتقدير: وقل إِنه لما قام عبد الله يدعوه لأن همزة (إِنّ) إذا وقعت في محكي بالقول تكسر، ولا يليق أن يجعل من حكاية مقالة الجن لأن ذلك قد انقضى وتباعد ونُقل الكلام إلى أغراض أخرى ابتداء من قوله: {وأن المساجد لله} [الجن: 18].
وأما الفتح فعلى اعتباره معطوفا على جملة {أنه استمع نفر} [الجن: 1]، أيْ وأوحي إليّ أنه لما قام عبد الله، أي أوحى الله إليّ اقتراب المشركين من أن يكونوا لُبدا على عبد الله لما قام يدعو ربّه.
وضمير {إنه} ضمير الشأن وجملة {لما قام عبد الله} إلى آخرها خبره.
وضمير {كادوا يكونون} عائدان إلى المشركين المنبئ عنهم المقام غيبة وخطابا ابتداء من قوله: {وأن لو استقاموا على الطريقة} [الجن: 16] إلى قوله: {فلا تدعوا مع الله أحدا} [الجن: 18].
و{عبد الله} هو محمد صلى الله عليه وسلم وضع الاسم الظاهر موضع المضمر إذ مقتضى الظاهر أن يقال: وأنه لما قمت تدعو الله كادوا يكونون عليك، أو لما قمتُ أدعو الله، كادوا يكونون عليّ.
ولكن عدل إلى الاسم الظاهر لقصد تكريم النبي صلى الله عليه وسلم بوصف {عبد الله} لما في هذه الإِضافة من التشريف مع وصف {عبدِ} كما تقدم غير مرة منها عند قوله: {سبحان الذي أسرى بعبده} [الإسراء: 1].
{ولِبدا} بكسر اللام وفتح الموحدة اسم جمع: لِبْدة، وهي ما تلبد بعضه على بعض، ومنه لِبْدة الأسد للشعر المتراكم في رقبته.
والكلام على التشبيه، أي كاد المشركون يكونون مثل اللبد متراصين مقتربين منه يستمعون قراءته ودعوته إلى توحيد الله.
وهو التفاف غيظ وغضب وهممٍ بالأذى كما يقال: تألبوا عليه.
ومعنى {قام}: اجتهد في الدعوة إلى الله، كقوله تعالى: {إذ قاموا فقالوا ربّنا ربّ السماوات والأرض} في سورة الكهف (14)، وقال النابغة:
بأن حِصنا وحيّا من بني أسد ** قاموا فقالوا حمانا غير مقروب

وقد تقدم عند قوله تعالى: {ويقيمون الصلاة} في أول سورة البقرة (3).
ومعنى قيام النبي إعلانه بالدعوة وظهور دعوته قال جزْءٌ بنُ كليب الفقعسي:
فلا تبغينها يا بن كُوز فإنه ** غذا الناسُ مُذ قام النبي الجواريا

أي قام يعبدُ الله وحده، كما دل عليه بيانه بقوله بعده: {قال إنما أدعو ربّي ولا أشرك به أحدا}، فهم لما لم يعتادوا دعاء غير الأصنام تجمعوا لهذا الحدث العظيم عليهم وهو دعاء محمد صلى الله عليه وسلم لله تعالى.
وجملة {قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا} بيان لجملة {يدعوه}.
وقرأ الجمهور {قال} بصيغة الماضي.
وقرأه حمزة وعاصم وأبو جعفر {قل} بدون ألف على صيغة الأمر، فتكون الجملة استئنافا.
والتقدير: أوحي إليّ أنه لما قام عبد الله إلى آخره قل إنما أدعو ربي، فهو من تمام ما أوحي به إليه.
و{إنما أدعو ربي}، يفيد قصرا، أي لا أدعو غيره، أي لا أعبد غيره دونه.
وعطف عليه {ولا أشرك به أحدا} تأكيدا لمفهوم القصر، وأصله أن لا يعطف فعطفه لمجرد التشريك للعناية باستقلاله بالإِبلاغ.
{قُلْ إِنِّي لا أمْلِكُ لكُمْ ضرّا ولا رشدا (21)}
هذا استئناف ابتدائي.
وهو انتقال من ذكر ما أوحي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى توجيه خطاب مستأنف إليه، فبعد أن حكي في هذه السورة ما أوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم مما خفي عليه من الشؤون المتعلقة به من اتِّباع متابعين وإعراض معرضين، انتقل إلى تلقينه ما يُرد على الذين أظهروا له العناد والتورك.
ويجوز أن يكون {قل إني لا أملك} الخ، تكريرا لجملة {قل إنما أدعو ربي} [الجن: 20] على قراءة حمزة وعاصم وأبي جعفر.
والضر: إشارة إلى ما يتوركون به من طلب إنجاز ما يتوعدهم به من النصر عليهم.
وقوله: {ولا رشدا} تتميم.
وفي الكلام احتباك لأن الضر يقابله النفع، والرشد يقابله الضلال، فالتقدير: لا أملك لكم ضرا ولا نفعا ولا ضلالا ولا رشدا.
والرّشد بفتحتين: مصدر رشد، والرُّشْد، بضم فسكون: الاسم، وهو معرفة الصواب، وقد تقدم قريبا في قوله: {يهدي إلى الرشد} [الجن: 2].
وتركيب {لا أملك لكم} معناه لا أقدر قدرة لأجلكم على ضرّ ولا نفع، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وما أملك لك من الله من شيء} في سورة الممتحنة (4) وتقدم أيضا في سورة الأعراف.
وجملتا {قل إني لن يجيرني} إلى {ملتحدا} معترضتان بين المستثنى منه والمستثنى، وهو اعتراضُ رد لما يحاولونه منه أن يترك ما يؤذيهم فلا يذكر القرآن إبطال معتقدهم وتحقير أصنامهم، قال تعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائتتِ بقرأن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن اتبع إلاّ ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} [يونس: 15].
والملتحد: اسم مكان الالتحاد، والالتحاد: المبالغة في اللحد، وهو العدول إلى مكان غير الذي هو فيه، والأكثر أن يطلق ذلك على اللجأ، أي العياذ بمكان يعصمه.
والمعنى: لن أجد مكانا يعصمني.
و{من دونه} حال من {ملتحدا}، أي ملتحدا كائنا من دون الله أي بعيدا عن الله غير داخل من ملكوته، فإن الملتحد مكان فلما وصف بأنه من دون الله كان المعنى أنه مكان من غير الأمكنة التي في ملك الله، وذلك متعذر، ولهذا جاء لنفي وجدانه حرف {لن} الدال على تأييد النفي.
و{مِن} في قوله: {مِن دونه} مزيدة جارة للظرف وهو (دون).
وقوله: {إلاّ بلاغا من الله ورسالاته} استثناء منقطع من {ضرّا} و{رشدا}، وليس متصلا لأن الضر والرشد المنفيين في قوله: {لا أملك لكم ضرا ولا رشدا} هما الضر والرشد الواقعان في النفس بالإلجاء.
ويجوز أن يكون مع ذلك استثناء من {ملتحدا}، أي بتأويل {ملتحدا} بمعنى مخلص أو مأمن.
وهذا الاستثناء من أسلوب تأكيد الشيء بما يشبه ضده.
والبلاغ: اسم مصدر بلغ، أي أوصل الحديث أو الكلام، ويطلق على الكلام المبلغ من إطلاق المصدر على المفعول مثل {هذا خلق الله} [لقمان: 11].
و{مِن} ابتدائية صفة (بلاغ)، أي بلاغا كائنا من جانب الله، أي إلاّ كلاما أبلغه من القرآن الموحى من الله.
و{رسالاته}: جمع رسالة، وهي ما يرسل من كلام أو كتاب فالرسالات بلاغ خاص بألفاظ مخصوصة، فالمراد منها هنا تبليغ القرآن.
لما كان قوله: {قال إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا} [الجن: 20] إلى هنا كلاما متضمنا أنهم أشركوا وعاندوا الرسول صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى التوحيد واقترحوا عليه ما توهموه تعجيزا له من ضروب الاقتراح، أعقب ذلك بتهديدهم ووعيدهم بأنهم إن داموا على عصيان الله ورسوله سيلقون نار جهنم لأن كل من يعصي الله ورسوله كانت له نار جهنم.
و{من} شرطية وجواب الشرط قوله: {فإن له نار جهنم}.
{حتّى إِذا رأوْا ما يُوعدُون فسيعْلمُون منْ أضْعفُ ناصِرا وأقلُّ عددا (24)}
كانوا إذا سمعوا آيات الوعد بنصر الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين في الدنيا والآخرة، وآيات الوعيد للمشركين بالانهزام وعذاب الآخرة وعذاب الدنيا استسخروا من ذلك وقالوا: {وما نحن بمعذبين} [سبأ: 35]، ويقولون: {متى هذا الفتح إن كنتم صادقين} [السجدة: 28]، ويقولون: {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [يونس: 48]، وقالوا: {ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} [ص: 16]، فهم مغرورون بالاستدراج والإِمهال فلذلك عقب وعيدهم بالغاية المفادة من {حتى}، فالغاية هنا متعلقة بمحذوف يدل عليه الكلام من سخرية الكفار من الوعيد واستضعافهم المسلمين في العدد والعُدد فإن ذلك يفهم منه أنهم لا يزالون يحسبون أنهم غالبون فائزون حتى إذا رأوا ما يوعدون تحققوا إخفاق آمالهم.
و{حتى} هنا ابتدائية وكلما دخلت {حتى} في جملة مفتتحة بـ {إذا} ف {حتى} للابتداء وما بعدها جملة ابتدائية.
وذهب الأخفش وابن مالك إلى أن {حتى} في مثله جارة وأن {إذا} في محل جرّ وليس ببعيد.
واعلم أن {حتى} لا يفارقها معنى الغاية كيفما كان عمل {حتى}.
و{إذا} اسم زمان للمستقبل مضمن معنى الشرط وهو في محل نصب بالفعل الذي في جوابه وهو {فسيعلمون}.
وعلى رأي الأخفش وابن مالك {إذا} محل جر بـ {حتى}.
واقتران جملة {سيعلمون} بالفاء دليل على أن {إذا} ضُمّن معنى الشرط، واقتران الجواب بسين الاستقبال يصرف الفعل الماضي بعد {إذا} إلى زمن الاستقبال.
وجيء بالجملة المضاف إليها {إذا} فعلا ماضيا للتنبيه على تحقيق وقوعه.
وفعل {سيعلمون} معلق عن العمل بوقوع الاستفهام بعده وهو استعمال كثير في التعليق لأن الاستفهام بما فيه من الإبهام يكون كناية عن الغرابة بحيث يسأل الناس عن تعيين الشيء بعد البحث عنه.
وضعفُ الناصر وهن لهم من جهة وهن أنصارهم، وقلة العدد وهنٌ لهم من جانب أنفسهم، وهذا وعيد لهم بخيبة غرورهم بالأمن من غلب المسلمين في الدنيا فإنهم كانوا يقولون: {نحن جميع منتصر} [القمر: 44].
وقالوا: {نحن أكثر أموالا وأولادا} [سبأ: 35]. اهـ.

.تفسير الآيات (25- 28):

قوله تعالى: {قُلْ إِنْ أدْرِي أقرِيبٌ ما تُوعدُون أمْ يجْعلُ لهُ ربِّي أمدا (25) عالِمُ الْغيْبِ فلا يُظْهِرُ على غيْبِهِ أحدا (26) إِلّا منِ ارْتضى مِنْ رسُولٍ فإِنّهُ يسْلُكُ مِنْ بيْنِ يديْهِ ومِنْ خلْفِهِ رصدا (27) لِيعْلم أنْ قدْ أبْلغُوا رِسالاتِ ربِّهِمْ وأحاط بِما لديْهِمْ وأحْصى كُلّ شيْءٍ عددا (28)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان من المعلوم أنهم إذا سمعوا هذا الوعيد قالوا استهزاء وعمى عن طريق الصواب واستعلاء: متى يكون عجل به، استأنف قوله جوابا لهم جواب من لا يستخفه عجلة ولا ضجر لأنه لا يخاف الفوت ولا يلحقه ضرر ببقاء العدو واجتهادهم في أذى أوليائه ميبنا ما يجوز على الرسل من أنه يخفى عليهم ما على البشر ويطلعهم الله تعالى ما يخفي على غيرهم: {قل} أي في جوابهم إن كذبوا بإتيانهم العذاب وسألوا استهزاء منه عن وقت وقوعه أما كونه فلابد منه لأنه قد برز الوعيد به ممن لا يخلف الميعاد، وأما تعيين وقته فقد أخفاه سبحانه لأنه أقعد في التهديد وهو معنى قوله: {إن} أي ما {أدري} بوجه من الوجوه وإن عالجت ذلك وتسببت فيه، وزاد في تقرير خفائه وأنه لا يزال في حيز ما يسأل عنه بصيغة الاستفهام فقال مقدما ما يخفيهم: {أقريب ما توعدون} أي يكون الآن أو قريبا من هذا الأوان بحيث يتوقع عن قرب {أم} بعيد {يجعل له} أي لهذا الوعي.
ولما كان التأخير ربما أفهم تهاونا بالولي.
فقال دافعا لذلك: {ربي} أي المحسن إليّ إن قدمه أو أخره {أمدا} أي أجلا مضروبا عظيما بكل اعتبار حتى في البعد لا يتأتى مع ذلك أن يكون الآن ولا أن يتوقع دون ذلك الأمد، فهو في كل حال متوقع فكونوا على غاية الحذر لأنه لابد من وقوعه فوقوعه لا كلام فيه، وإنما الكلام في تعيين وقته.
ولما نفى صلى الله عليه وسلم علمه عن نفسه الشريفة، نفى ذلك عن غيره على وجه عام لجميع الغيب جالٍ من عظمة مرسله ما تنقطع دونه الأعناق فقال واصفا له: {عالم الغيب} أي كله وهو ما لم يبرز إلى عالم الشهادة فهو مختص سبحانه بعلمه، فلذلك سبب عنه قوله: {فلا يظهر} أي بوجه من الوجوه في وقت من الأوقات {على غيبه} أي الذي غيبه عن غيره فهو مختص به {أحدا} لعزة علم الغيب ولأنه خاصة الملك.
ولما كان لا يعلم الغيب إلا ببروزه على عالم الشهادة، وكان لأول من يطلع عليه شرف ينبغي أن يعرف له قال: {إلا من ارتضى} أي عمل الله تعالى في كونه رضي عمل من يتعمد ذلك ويجتهد فيه، وبين (من) بقوله: {من رسول} أي من الملائكة ومن الناس فإنه يظهر عليه ذلك المرتضى الموصوف لا كل مرتضى بأن يظهره على ما شاء منه لأن الغيب جنس لا تحقق له إلا في ضمن أفراده، فإذا ظهر فرد منه فقد ظهر فيه الجنس لظهور حصة منه، وتارة يكون ذلك الرسول ملكا، وتارة يكون بشرا يكلمه الله بغير واسطة كموسى عليه الصلاة والسلام في أيام المناجاة، ومحمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج في العالم الأعلى في حضرة قاب قوسين أو أدنى، وإذا ظهر عليه الرسول خرج عن كونه غيبا، وأوصله الرسول إلى من أذن له في إيصاله له تارة بالوحي للأنبياء وتارة بالنفث والإلهام للأولياء، وذلك عند تهييء نفوسهم بسكون قواها عن منازعة العقل بالشهوات والحظوظ كما يكون للنفوس عامة حين سكون القوى عن المنازعة بالنوم فتكون متهيئة للنفث فيها فمن أعرض عن جانب الحس وأقبل على جناب القدس فقده هيأ نفسه لنفث الملك في ورعه بعلم ما لم يكن يعلم وليس أحد من الناس إلا وقد علم من نفسه أنه إذا أقبل على شيء بكليته حدث له فيه أمور حدسية إلهامية بغتة من غير سابقة فكر وطلب، وعلى قدر التهيئة يكون النفث من قبل الله سبحانه وتعالى، وربما كان النفث شيطانيا بما تلقته الشياطين من الاستراقات من الملائكة إما من الأرض بعد نزولهم أو من السماء بالاستراق فيها- والله أعلم، ويجوز أن يكون للأولياء مشافهة من الملك كما كان لمريم عليها السلام من الملائكة، وقال جبريل عليه الصلاة والسلام عن بعضهم إنه لو سلم رد عليه.
ولما دل هذا السياق على عزة علم الغيب وكانت عزته سببا لحراسة من يطلع عليه ليؤديه إلى من أمر به كما أمر به، أعلم سبحانه وتعالى بذلك بقوله مؤكدا تمييزا له من علم الكهان الذي أصله من الجان دالاّ على إجلال الرسل وإعظامهم وتبجيلهم وإكرامهم: {فإنه} أي الله سبحانه وتعالى يظهر ذلك الرسول على ما يريد من الغيب.
وذلك أنه إذا أراد إظهاره عليه {يسلك} أي يدخل إدخال السلك في الجوهرة في تقومه ونفوذه من غير أدنى تعريج إلى غير المراد.
ولما كان الغرض يحصل بمن يقيمه سبحانه من جنوده للحراسة ولو أنه واحد من كل جهة بل وبغير ذلك، وإنما جعل هذا الإخراج للأمر على ما يتعارفه العباد، عبر بالجارّ دليلا على عدم استغراق الرصد للجهات إلى منقطع الأرض مثلا فقال: {من بين يديه} إلى الجهة التي يعلمها ذلك الرسول {ومن خلفه} أي الجهة التي تغيب عن علمه، فصار ذلك كفاية عن كل جهة، ويمكن أن يكون ذكر الجهتين دلالة على الكل وخصهما لأن العدو متى أعريت واحدة منهما أتى منها، ومتى حفظت لم يأت من غيرها، لأنه يصير بين الأولين والآخرين {رصدا} أي حرسا من جنوده يحرسونه ويحفظونه بحفظ ما معه من الغيب من اختطاف الشياطين أو غيرهم لئلا يسترقوا شيئا من خبره. قاله ابن عباس رضى الله عنهما، وقال مقاتل وغيره رضى الله عنهما: يخبرونه بمن أنكره بأن يحذروه منه إن كان شيطانا أو يأمروه بالسماع منه إن كان ملكا، وذلك أن إبليس كان يأتي الأنبياء في صورة جبريل عليه السلام ولكن الله عصمهم منه.
ولما كان هذا الدأب من الحفظ في كل رسول بين الغاية جامعا تعيينا لما اقتضاه الجنس، وبيانا لأن الأفراد أولا مراد به الجمع، وأنه ما عبر به إلا لتشمل الحراسة كل فرد منهم فقال: {ليعلم} أي الله علما كائنا واقعا على هذه الصفة التي تعلق بها علمه في الأزل قبل وجودها بما لا يعلمه إلا هو سبحانه أنها ستكون {أن} أي إن الرسل عليهم الصلاة والسلام {قد أبلغوا} أي إلى من أرسلوا إليه {رسالات ربهم} أي الذي أوجدهم ودبر جميع أمورهم واختارهم لرسالاته على ما هي عليه لم يشبها شائبة ولا لحقها غبر.
ولما كان هذا ربما أوهم أنه محتاج في الحفظ إلى الرصد أزال ذلك بقوله: {وأحاط} أي فعل ذلك والحال أنه قد أحاط {بما لديهم} أي الرسل والمرسل إليهم من الملائكة والبشر على أدق الوجوه وأعظمها وأغربها بما أشار إليه التعبير بلدى، ولما كان هذا كافيا في المقصود، لكنه قاصر على محل الحاجة عم تعريفا بالأمر على ما هو عليه، فقال حاملا على شدة الوثوق بما تقوله الرسل عن ربهم وأنه لا لبس فيه ولا غائلة بوجه، مبينا غاية البيان كذب حديث الغرانيق الذي ذكره بعض المفسرين وغيرهم في سورة والنجم: {وأحصى} أي الله سبحانه وتعالى {كل شيء} أي على العموم من غير استثناء أصلا {عددا} أي من جهة العدد لكل ما يمكن عده ولو على أقل مقادير الذر فيما لم يزل وفيما لا يزال، فهو دليل قاطع على علمه تعالى بالجزئيات كعلمه بالكليات، وقد التقى أول السورة وآخرها وباطنها الغيبي وظاهرها، فدل آخرها على الأول المجمل، وأولها على الآخر المفصل، وذلك أن أول السورة بين عظمة الوحي بسبب الجن، ثم بين في أثنائها حفظه من مسترقي السمع، وختم بتأكيد حفظه وحفظ جميع كلماته واستمر في تأكيد أمره حتى بانت عظمة هذا القرآن، وظهرت عزة هذا الفرقان، على كل كتاب، بكل اعتبار وحساب، فافتتح المزمل بمثل ذلك وختمها بالأمر بقراءة ما تيسر منه، وذكر في المدثر طعن الطاعن فيه وما ناله بسبب ذلك الطعن من الخزي والعذاب في الدنيا والآخرة مع ضمان الحفظ منه، ثم نهى نبيه صلى الله عليه وسلم في سورة القيامة عن العجلة في أمره لئلا يختل حفظه، أو يزيغ أدنى زيغ لفظه، وتشريعا لأمته في ترك الاستعجال، فإنه ليس من دأب الرجال، ثم أكد أمر تنزيله في الإنسان، وبين أن علة الإعراض عنه حب العاجلة التي هي عين النقصان، وختم المرسلات بنهاية ما تخيل الأوهام والظنون، فقال: {فبأي حديث بعده يؤمنون} [الأعراف: 185] فسبحان من نظمه هذا النظام، وجعله أقصى المراد وغاية المرام، وصلى الله على من لا نبي بعده على الدوام. اهـ.